امثال بواسطة Balazs- © Depositphotos
المطالعة العميقة ممارسة جميلة وعادة هامة وإبحار بلا وسيلة ولا جواز سفر, لا تعترف بالحدود ولا بقوانينها, فهي تعد من العوامل السريعة للحصول على الثقافة والمعرفة، وجعلنا أكثر ذكاء ولطفا في التعامل مع من يحيطون بنا, تزرع فينا الصبر وجمال الروح والواقعية وكيفية التحليل والاستنباط ومواجهة العوالق من الأمور والمفاجآت الداهمة والتصرف إزاء مستعصيات الأمور، روح تتدفق في وجدانك ودواخلك, تقويك وتمدك بطاقة تجعل منك وعاء السكون والطمأنينة وامتدادا لما حولك من الخلائق كائنا كان أو جماد, ذو نظرة ثاقبة وميزان يعطي لكل مسألة حقها, مقبلا غير مدبر, منشرح الصدر مبتسم الثغر, ترى جمال الوجود كله في كلمة وانبساط المعمورة في حرف, كم من قصة انصهرنا في أحداثها وتهنا مع رقرقة جداولها وجمعتنا سطورها وأبعاد أحداث خيالها بأحباب لنا عشنا معهم لحظة براءة ورباط صداقة وقصص حب برئ, وكم من فقرات أدهشتنا بعمقها فتوقفنا سويعات أمام وهجها الساحر للتأمل والمتعة, وكم من جمل رددناها على مسامع من نحب وألسنتنا تتلعثم وخدودنا تحمر وتصفر, فكم من نصوص حللناها واستنبطنا منها قراءات عديدة وتأملات مختلفة ولكنها في النهاية واجهتنا بكم من نقاط الاستفهام وضعنا تحتها خطوطا بقيت جامدة بدون تفسير, قد تغرق في معنى وقد تضيع مع عنوان وقد تملأ الصفحات من عمق جملة, كما قد تؤلف كتابا من مجرد حكاية استهوتك تفاصيلها .
إن أهملنا المطالعة العميقة ضاعت التنمية الفكرية والروحية والعاطفية وانغمست الأجيال القادمة قلبا وقالبا في الإقبال على شبكات الانترنت التي جعلت وستجعل منا قوالب جافة لا حس ولا إحساس ولا تأثر ولا تأثير تسيرنا الماديات وبريق هجين طبخ في مخابر الغرب أبعدنا عن أصلنا وفصلنا و تمسكنا بكتاب الله وسنة الرسول الكريم, قارب نجاتنا في الدنيا والآخرة, والدليل نراه اليوم حقيقة سافرة الوجه أمام أعيننا, شباب بلغ سن الأربعين من العمر ولم يتزوج بعد, لا هم لهم سوى نفث دخان سيجارة أو إبحار في عوالم وهمية محطمة للروح والكيان والشخصية, سهر بالليل ونوم في النهار, خلل في عقولهم وخلخلة في حسهم, العيون غائرة والعزائم خائرة والبصر عَقِيرٌ والبصيرة عُقَرَةٌ.
شباب هجر القراءة والمطالعة, فكل الروايات القصص والقصائد التي كانت الشغل الشاغل للمثقفين تركت لغبار النسيان وفي هذا السياق نشرت مجلة ( التايم) الأمريكية تقريرا مفاده أن التمتع والانصهار في القراءة الأدبية يغذي العقل بلغة راقية غنية ثرية بالتفاصيل والإشارة والمجاز والتشبيه، الذي يساعد على تنشط أجزاء من الدماغ، ويجعل هذه اللغة قابلة للاستخدام في الحياة الواقعية، إضافة إلى أن الحالات العاطفية والمعضلات الأخلاقية التي نقرأها في الكتب الأدبية، تساهم أيضا في العمل الإيجابي لعقولنا ، وتجعلنا نتسلل داخل الشخصيات الخيالية ونتفاعل معها، الأمر الذي ينعكس على الواقع من خلال خلق تعاطف مع الآخرين.
لقد أصدرت جمعية National Literacy Trust البريطانية دراسة أجريت على 34910 من الشباب، تتراوح أعمارهم بين 8 إلى 16 سنة، أظهرت أن الشباب الذين يقرؤون على الأجهزة إلكترونية، أقل ثلاث مرات من القراء الآخرين في الشعور بالاستمتاع أثناء القراءة الورقية، وكذلك في تحديد الكتاب المفضل لهم. وتضيف "أن الذين يستخدمون الأجهزة الإلكترونية، يقرؤون أقل مرتين من المعدل العالي للقراءة، الذي يصل إليه القراء الآخرون، الذين يجمعون بين الكتب المطبوعة والقراءة الإلكترونية". . وبناءا عليه ، فإنه ينبغي علينا أن نقلق على مستقبل هذه الأجيال الضائعة في متاهة شبكة الإنترنت حد الإدمان المرضي, حتى الأطفال الصغار في عمر الملائكة من سنتين فما فوق لم يسلموا من هذا الإدمان المفرط.
إن قراءة الكتب الأدبية تحمينا من الانحرافات، وتجعلنا منسجمين مع الفروق الدقيقة في اللغة، ففي دراسة أجراها فيكتور نيل، حول الدراسة النفسية لمتعة القراءة، مفادها أننا نصبح أكثر استمتاعا عندما نقرأ بتأني ، مؤكدا أن الوئام بين السرعة والبطء وفهم الكلمات جيدا، يثري عملية التفكير والتحليل، والذاكرة ووجهات النظر لدى القارئ، كما أنه يخلق علاقة وطيدة بين القارئ والكاتب.
بلخيري محمد الناصر
أخبار ذات صلة
كل التعليقات ( 0 )